الجمعة، 20 أغسطس 2010


إنهاء حالة مبارك – بقلم: عبد الحليم قنديل


لا مفاجأة من أي نوع في مد النظام المصري لحالة الطوارئ المتصلة في البلاد لثلاثين سنة خلت، والتي بدأ العمل بها عقب اغتيال الرئيس السادات في حادث المنصة الشهير.
والسبب مفهوم، فنظام مبارك لايستطيع أن يحكم مصر يوما واحدا بدون حالة الطوارئ وأحكامها العرفية، فلسنا بصدد نظام سياسي بالمعنى المعروف، بل بصدد نظام يحكم البلد كقوة احتلال، وقواعده الاجتماعية والســــياسية تداعت من زمن، وتحول ـ في العقد الأخير بالذات ـ إلى رأس عائلي معلــــق فــــوق خـــازوق أمني متضـــخم ومـــتورم، ولديه أكــبر جهاز أمن داخلي في العالم ربما باستثناء الصين، فعدد قواته يقارب المليوني عسكري، بينهم 850 ألفا في وزارة الداخلية، و450 ألفا من قوات الأمن المركزي، و400 ألف في جهاز الخدمة السرية، وبتسليح يقارب تسليح الجيوش، وبصورة جعلت اللون الأسود سيد الأشياء في مصر، فعربات الأمن المركزي بمنظرها الداكن المقبض على النواصي وفي الميادين، وجنود الأمن المركزي بالأردية السوداء والخوذات الأسود، وجهاز مباحث أمن الدولة يدير مرافق الدولة عمليا، يرفع ويخفض ويقرر، ويحول مؤسسات الدولة إلى مايشبه الأقنعة التنكرية.
نحن ـ إذن ـ بصدد نظام استثنائي، ولا يستطيع أن يدير البلد، ولا أن يحفظ وجود رأسه بدون قانون الطوارئ الاستثنائي، فهو الذي يطلق يده لكي يقمع ويعتقل، ويعذب ويقتل، ويردد عبارات بلهاء مما تعود عليه كل ديكتاتور، ومن نوع حفظ السلامة العامة وضمان الأمن القومي.
والذي يراقب ما يكتب من خطب لمبارك، ويلحظ ما فيها من تهديد ووعيد، ومن أحاديث وتحذيرات عن الفوضى، يلفت نظره ذلك الفزع الغريزي الذي تتضمنه، والذي يحتاج إلى تفسير، فلا شيء ظاهر على السطح يوحي بالانزلاق إلى الفوضى، وتجمعات التظاهر والاعتصام تبدو تحت السيطرة الأمنية، وكل متظاهر يقابله ألف عسكري، لكن النظام ـ بغريزته الأمنية ـ يتخوف من المضاعفات، ويدرك أن إرخاء القبضة الأمنية سيقود إلى ما هو أخطر، وأن جذب مئات المتظاهرين لمئات الآلاف من المصريين ممكن جدا، وأن الحل ـ لمنع الخطر الوارد ـ هو في تقوية جدران العزل الأمني، وإطلاق اليد القمعية بصورة لايضمنها غير سريان حالة الطوارئ .
وقبل خمس سنوات، أطلق مبارك ما أسماه برنامجه الانتخابي، ووعد بالإلغاء التام لحالة الطوارئ، ثم لحس وعده كالعادة، وأدرك أن إلغاء حالة الطوارئ يعني إلغاء حالة مبارك نفسه، وأن تخفيف القبضة الأمنية سيؤدي إلى انفجار شعبي واسع النطاق، فالهدوء الظاهر على الســطح مصـــنوع وخادع تماما، ومصر بلد يعوم فوق آبار غضب جــــوفي، وكشف الغــــطاء الأمني قد يطلق بخار غضب يطيح بحكم الديكتاتورية العائلية، والنتيجـــة مفهومة، فمبارك لايستطيع ـ حتى لو رغب ـ أن يلغي الطوارئ، ولو فعلها، فإنه يشطب اسمه بجرة قلم، ويشطب وجوده بجرة غضب.
وربما وجد مبارك أن الحل هو في اللجوء إلى التحايل، وإلى نوع من النصب الدعائي، وإطلاق سحابة دخان عن تعديلات ما، والاقتصار بحالة الطوارئ على مكافحة الإرهاب وتجارة المخدرات، وهي ذات الأسطوانة المشروخة التي رددها نظام مبارك دائما، وفي كل مرة يتقرر فيها مد العمل بقانون الطوارئ، كانوا يحدثونك عن تعهدات وتقييدات وتعديلات، ثم تتكشف الحقائق، ويتضح أن حالة الطوارئ لا علاقة لها بدعوى مكافحة تجارة المخدرات، ففي القوانين الجنائية العادية ما يكفي ويزيد، ثم لاتؤدي قوانين العادة ـ ولا إضافات الطوارئ ـ إلى تقليص تجارة المخدرات، بل إلى ازدهارها وانتشارها، وإلى تحول تجار المخدرات الكبار إلى رديف لجماعة ‘البيزنس’ بالقرب من عائلة الحكم، ثم أن حديث الإرهاب يبدو مفتعلا تماما، ومقلوبا بالجملة، فلم تحدث عملية إرهابية واحدة ذات شأن في الجغرافيا السكنية الأساسية في مصر منذ العام 1997، اللهم باستثناء ما جرى فى شرق سيناء، وهي المنطقة منزوعة السلاح بدواعي ما يسمى معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، وحيث تسرى أحكام إسرائيل لا أحكام طوارئ مبارك، والمعنى : أنه لم يعد في مصر ـ حول مجرى النيل ـ من جماعة إرهابية غير نظام مبارك نفسه، وهي ترتكب جرائمها على المكشوف، فقد أصدرت مئة ألف أمر اعتقال خلال الثلاثين سنة طوارئ، وقررت إعدام المئات بقرارات محاكم الطوارئ والمحاكم العسكرية، وتحولت بالدولة إلى تشكيل عصابي يقتل مئات المعارضين في الشارع، وباستراتيجيةالضرب في المليان’ المقررة منذ أواسط الثمانينيات، وانتهت بالمئات إلى الموت تحت التعذيب فى السجون، وبمئات آخرين إلى الموت تحت التعذيب في أقسام الشرطة، وحولت أماكن الاحتجاز إلى سلخانات بشرية، وذهبت بالعشرات إلى غياهب ‘الاختفاء القسري، وحيث ينقطع الأثر وتتحلل الجثث، وهكذا تحول قانون الطوارئ إلى طوق حماية لإرهاب النظام، وأرخى سدول الظلام على جرائم الفزع العام، وبدعوى حفظ السلم العام.
قصة الإرهاب ـ إذن ـ اسطوانة مشروخة يرددها ‘كورس’ النظام الإرهابي، وهو يعطي للمصطلح ـ المكروه ـ دلالة أخرى ضمنية وظاهرة، ويمد معنى الإرهاب ليشمل كل فعل سياسي سلمي لايريحه، ويخرج عن شروطه وتحكماته، فهو يعتبر أن جماعة الإخوان المسلمين السلمية ـ مثلا ـ جماعة إرهابية، وبسبب أنها تمارس نشاطها استنادا إلى قوة وجودها الواقعي وقواعدها الاجتماعية، ويتعين قصف وجودها بالمحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة طوارئ، ثم أن الإرهاب ـ في مفهوم النظام الضمني ـ قد أضيف له مدد من مورد آخر في الخمس سنوات الأخيرة، وفي صورة المظاهرات والإضرابات والاعتصامات السلمية، والتي تديرها جماعات التغيير على طريقة ‘كفاية’ وأخواتها، والمعنى : أنها صارت فعلا ينطوى على ‘خطر إرهابي’ من وجهة نظر النظام، وهو يتحرك على جبهة الخطر في محورين، الأول هو إنهاء قصة الانتخابات، وتحويلها إلى تعيينات إدارية وأفلام كارتون، والثاني : إطلاق يد القمع، ومحاولة لجم ظاهرة اللجوء إلى الشارع والاعتصام بقوة الناس، وهو ما يعني أن الصراع صار من طبيعة وجودية، ولا يملك النظام خيارا، وليس له من مدد سوى مورد وحيد هو سريان حالة الطوارئ، وإحلال قانون الطوارئ محل الدستور الدائم للبلاد.
ويلفت النظر أن مبارك قرر مد حالة الطوارئ لعامين إضافيين، أي إلى 30ايار (مايو) 2012، وهو تاريخ يتجاوز خط انتهاء رئاسته الخامسة في تشرين الاول (أكتوبر) 2011، والإيحاء واضح، فمبارك يعتزم ـ رغم أحوال الصحة المتداعية ـ أن يكون رئيسا لمدة سادسة، ويستبقي معه سلاحه الوحيد إلى الفترة السادسة، ويطمئن جهازه الأمني المتضخم إلى دوام الاعتماد عليه، ويحصن أفراده من العقاب المستعجل على جرائم إرهابية ارتكبوها تحت ستار الطوارئ.
والمحصلة ظاهرة، ومنطوقها ببساطة : أن الطوارئ ونظام مبارك صنوان لا يفترقان، وأنه لافرصة لإنهاء حالة الطوارئ بغير إنهاء حالة مبارك.. السياسية طبعا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق